الدكتور نبيل المظفري facebook

لصق الكود

السبت، 18 يونيو 2011

مبدأ الحوار والديمقراطية


مبدأ الحوار والديمقراطية
       ان المجتمعات في تطور مستمر ، وقد رافق هذا التطور توسع المجتمعات وزيادة حاجاتها ووسائل وطرق إدارتها ، في جميع نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، ونتيجة لذلك لابد من إيجاد نظام خاص لتلك الإدارة ، فكان النظام الديمقراطي اقرب الأنظمة ملائمة للإدارة المشتركة ، والديمقراطية بحد ذاتها بحاجة الى توفر الظروف المناسبة لإنجاحها ، ومن ضروريات الديمقراطية اعتماد مبدأ الحوار ، على اعتباره أهم شرط في المجتمع الديمقراطي ، وبدونه لا يمكن تحقيق شيء من الديمقراطية .
    والإنسان بدوره ككائن مميز عن الكائنات الأخرى ، لابد ان يعمل على مبدأ الحوار طالما هو المسؤول عن تنظيم المجتمعات ، وتطورها وتخلفها أمر يتوقف عليه ، والتنظيم أساس للتطور ، لهذا فالإنسان هو المسؤول عن إقامة هذا النظام ، وبما ان مبدأ الحوار مبدأ الهي ، إذا أخذنا بنظر الاعتبار ما جاء في الآيات القرآنية الكريمة ، حتى قبل ان يخلق الله سبحانه وتعالى الإنسان ، أي ان سبحانه حاور الملائكة في خلق الإنسان على الرغم من ان ذلك جاء بصيغة الأمر ، وهذا وارد وهنا الحال مختلف لان الحوار كان بين الخالق والمخلوق وليس بين مخلوق وآخر او مخلوقات من جنس واحد ، كما جاء في الآية الكريمة{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }البقرة(30)، أي ان الله اعلم ملائكته بانه خالق كائن مميز يستخلفه في الأرض ويعبد الله ، وكان له ان يخلقه دون إعلامهم لكونه الخالق الذي يقول كن فيكون ، وأعطى الفرصة للملائكة لإبداء رأيهم ، إذ أنهم وجدوا في خلق الإنسان أمراً سلبياً ، والمهم هنا انه سمح للملائكة بالحديث عن موضوع خلق الإنسان ، على الرغم من عدم الأخذ بوجهة نظرهم في الموضوع ، ويكفي هنا ان نشير الى الحوار الذي دار بين الخالق والمخلوق الذي هو الأساس في هذا الموضوع .
    وبعد ان خلق الله الإنسان ولأهمية هذا المخلوق وقبل ان يهب في جسد آدم الروح أمر الملائكة بالسجود له{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ }الحجر(29)   ، ويظهر فيما بعد ان الوحيد الذي لم يسجد من الملائكة ،ولم ينفذ امر الله هو إبليس(*) ، وكان الله اعلم لما امتنع إبليس عن السجود ، لكنه أراد ان يحاوره في أمر امتناعه فقال له سبحانه(( َلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ{11} قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ{12} الاعراف) ، وهنا يظهر ان الله لم يتخذ الأمر في إنهائه من الوجود وهو القادر على كل ذلك بلمح البصر ، بل حاوره بمنتهى الهدوء واستفسر عن سبب امتناعه لأمر الله  ، ثم لعنه حتى يوم الدين ، ومع كل ما جرى في هذه الحالة ، استجاب الله سبحانه لإبليس عندما طلب منه ان يبقيه الى يوم القيامة ((قالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ{14} قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ{15} قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ{16} ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ{17} الاعراف
     مما دار من حديث بين الله ومخلوقه إبليس يدل على جملة من المبادئ الأساسية الواجب الالتزام بها كبشر طالما انه الكائن المميز وهذا واضح من الآية الكريمة مثل خلق الله الإنسان بيده وسجد له الملائكة ، والاهم في ذلك والذي يتعلق بالموضوع هو إعطاء الفرصة الكافية لإبليس في الحديث مع خالقة حول الأسباب التي كانت وراء عصيانه ، ومن ثم استجابة الله له في طلبه في إبقائه حتى يوم القيامة ، علماً انه ذكر لله بان بقائه ليس من اجل عبادته بإخلاص إنما إغواء الناس وإخراجهم عن الطريق المستقيم .
     ان ما سبق يجعلنا ان نتخذ منها نموذجا للحوار بين الإنسان وأخيه الإنسان طالما ان الحوار كان موجوداً بين الخالق والمخلوق ، وذلك لان الحوار يرسم لنا طريقا صحيحاً للوصول الى الآراء والرؤى الصحيحة في العمل والحياة اليومية ، اذ ان القرارات الانفرادية غالباً تكون غير متكاملة ولا تؤدي الى نتائج ايجابية ، وان الاستماع الى الآخرين يفتح أمام الإنسان آفاق جديدة للتفكير بشكل أعمق والوصول الى النتائج السليمة دون التأثير على الآخرين وان تناقض الآراء واختلافها لا يفسد للود قضية إنما من الممكن مناقشتها وتكوين رأي مشترك من خلالها تتجاوز النواحي السلبية التي جاءت في تلك الآراء وكما قال احد المفكرين "ان المجتمع الذي ليس فيه حوار مجتمع ذاهب الى الهلاك" ، وهذ يتطابق جملة وتفصيلاً مع مبدأ الديمقراطية.
    وقد كان الحوار سبباً أساسياً في نجاح المجتمعات منذ فترة تاريخية موغلة في القدم ، فمثلاً مملكة سبأ التي نشأت في اليمن كانت من الممالك العظيمة في التاريخ بفضل مبدأ الشورى ، ففي عهد ملكتهم بلقيس ، يذكر بانه كان هناك (313) رجلاً من أهل مشورتها وكل رجل كان على رأس عشرة آلاف رجل وبالتالي فقد كانت مملكة عظيمة متماسكة ، وكانت بلقيس لا تتخذ القرارات الا بعد مناقشتها مع أهل الشورى ، وكذلك فعلت عندما هاجم النبي سليمان (ع) مملكتها اذ جمعتهم (( قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ{32} قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ{33} قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ{34} وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ{35} النمل)) .
       ان من خلال هذه القصة يمكن الوصول الى عدة اعتبارات في مقدمتها ان الأمة القائمة على الشورى والحوار تكون امة عظيمة وقائمة على أسس صحيحة وان القرارات التي تتخذ وبناء المجتمع تكون وفق آليات مدروسة وصحيحة ، كما ان الحروب تهلك المجتمع والدولة بشرياً ومادياً ، فلابد ان يكون الحوار ومداولة الأمور الأساس في معالجة الإشكاليات والتحديات التي تواجه المجتمع أياً كان نوعها واتخاذ ما يلزم من الإجراءات والقرارات بما يتناسب وحجم التحدي والمشكلة وعند ذاك يكون الجميع مسؤولين عن النتائج ، وان تجربة مملكة سبأ يدخل في صلب الديمقراطية فقد كان هناك مجلساً يضم عدداً كبيراً من رجالات الدولة ممثلين عن عشائرهم ومناطقهم على الرغم من اختلاف آلية التمثيل من عصر الى عصر .
    وفي الدين الإسلامي يعد الحوار مبدأً أساسياً في إدارة المجتمع تحت عنوان الشورى وإعطاء حق الكلام للآخرين ، اذ يعد امراً اساسياً في تحقيق رضا الله عن عباده{وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ }الشورى(38)، وهذا يؤكد على أهمية الشورى ، وكذلك أمر سبحانه وتعالى نبيه بان يستشير أولوا العقل في أمور الدنيا{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ }آل عمران(159) ، كما ان الله أمر الإنسان في مناقشة الأمور وتبيان الصحيح وعدم فرض الأشياء عليهم وإنما محاورتهم وإقناعهم عن طريق الحوار بالأدلة والشواهد التي تدعم الرأي الصحيح (( وجادلهم بالتي هي أحسن )) ، وهناك أمثلة كثيرة على مبدأ الحوار ومفهوم الديمقراطية في الإسلام ، اذ يرى الإسلام ان إبداء الرأي وقول الحق من الأمور الأساسية في الحياة وهي من المسائل التي يؤجر الإنسان عليها ، فقد ورد في الحديث الشريف ما يدل على ذلك (أفضل الجهاد عند الله كلمة حق عند سلطان جائر ) ، وفعل كذلك الخليفة ابو بكر (رض) عندما تولى خلافة المسلمين فقد نبه على ضرورة تقويم سياسته اذ ما اخطأ او حاد عن العدالة ، والأمر ينطبق أيضاً على الخليفة عمر بن الخطاب (رض) ، عندما دعا الناس الى المطالبة بحقوقهم ، وان ابى هو ان يعطيهم حقهم فليأخذوا حقهم بحد السيف ، ومن الأمثلة على ذلك ، ان اعرابياً أراد ان يتحدث عن سياسة الخليفة فمنعه الناس عن الحديث ، فقال ( دعه يقلها فلا خير فيكم ان لم تقولوها ولا خير في ان لم اسمعها) ، وهناك مسائل أخرى كثيرة في هذا المجال ، الا ان المهم في الأمر هو ان الخالق والأنبياء والخلفاء عملوا بمبدأ الحوار والاستشارة فكيف للإنسان العادي ان يمنع الآخرين من إبداء أرائهم او طرح أفكارهم او عدم الاستماع لهم ، لانه لا يمكن بناء مجتمع قائم على العدالة والمساواة دون ان نأخذ بهذه المبادئ الأساسية مثل الحوار والشورى وحرية الكلام وغيرها ولا يمكن خلق مجتمع ديمقراطي من دون تلك المبادئ .




(*)  ابليس لم يكن من الملائكة وانما كان كبير الجن وقد خلق من النار ، الا انه كان له مكانة كبيرة لهذا فقد كان في صف الملائكة .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق