الدكتور نبيل المظفري facebook

لصق الكود

الاثنين، 22 أغسطس 2011

الشعب الليبي شعب عظيم يستحق منا التحية



        منذ شباط سنة 2011 ، والشعب الليبي يخوض نضالا مسلحا ضد نظام جثم على صدر شعبه منذ أيلول 1969 وحتى يومنا هذا، وقد واكب هذا النضال الثورات السلمية التي شهدتها البلدان العربية، ويعد الثورة الليبية جزءٌ من تلك الثورات بدأت شرارتها من تونس، إلا أن المختلف بينهما، إن الشعب الليبي قد اضطر إلى حمل السلاح للدفاع عن نفسه، وإلا فإن النظام الليبي وكتائبه كانوا يريدون لهذا الشعب أن يباد، وهنا نذكر الدور الايجابي لحلف شمالي الأطلسي الذي تبنى مسؤولية حماية الشعب الليبي من الجو وبالفعل لولا تدخل الناتو لكان النظام قد ارتكب جرائم الإبادة الجماعية في بنغازي وغيرها من المدن الليبية. وبالعودة مرة أخرى إلى الشعب الليبي فانه قد اظهر عظمته بمواصلته النضال بالرغم من الظروف الصعبة التي مر بها وصبره الطويل إذ مر أكثر من ستة أشهر على انطلاقة الثورة وهذا الشعب يخوض المعارك الشرسة ضد كتائب القذافي بإمكانيات بسيطة وأسلحة لا توازي العدة العسكرية للنظام، لقد اثبت الشعب الليبي من خلال ثواره بأنه شعب شجاع لا يخشى الموت بدليل الاستمرار في القتال ضد الدكتاتورية تحت كل الظروف، فكل ذلك يحسب لصالح هذا الشعب وها هو اليوم يأكل ثمرة نضاله بسقوط الطاغية معمر القذافي واختبائه في دار أو بيت أو زنقة كجرذ الذي طالما وصف الثوار بالجرذان ووعد بملاحقتهم زنقة زنقة. ومما يحسب أيضا لصالح الشعب الليبي انه لم يعمد إلى نهب مؤسسات الدولة بل على العكس فان الشعب الليبي تولى مسؤولية حماية المؤسسات العامة والخاصة، وإذا حدث خروقات بسيطة هنا أو هناك مثل مقتل بعض الأشخاص أو سرقة بعض الأشياء فهي أمور بسيطة لا تذكر وجاءت بعد الضغط النفسي وحالات التعسف الذي تعرض له الشعب والثوار خلال هذه الأشهر العصيبة للثورة وحتى إن الثوار قد تعاملوا بكثير من المدنية مع المسؤولين الذين تم اعتقالهم مثل سيف الإسلام ومحمد القذافي. وعلى كل لا يزال أمام الليبيين الكثير للعمل من اجل ليبيا ديمقراطية مدنية ولكن الدلائل تشير إلى أن الشعب الليبي شعب عظيم بشجاعته وفضله وقيمه وتسامحه، فانه سوف يتجاوز كل التحديات بسهولة ولاسيما إن البنية التحتية لليبيا لم تتعرض للدمار كما حدث في العراق وليبيا تمتلك اقتصادا قويا وموارد اقتصادية كبيرة فان ليبيا ستستعيد عافيتها إذا لم يتم سرقة ثورتها كما حدث في العراق على الرغم من أن هناك فارقا في المقارنة بين الحالتين مع تشابه الأنظمة الدكتاتورية في كلا البلدين لان الأخيرة أي العراق قد تعرض إلى تدمير بنيته التحتية بفعل الاحتلال والنظام الصدامي والإرهاب ووصول نخبة إلى السلطة السياسية فيه لم تضع مصلحة البلاد ضمن أولوياته هذا اقل ما يقال . ومع هذا وذاك فان ليبيا أيضا بعد نظام القذافي يهددها خطرين لابد لهذا الشعب أن يدرك مخاطرهما وهما الاقتتال الداخلي ولاسيما الاقتتال القبلي لان المجتمع الليبي إلى حد بعيد نظام قبلي، أما الخطر الثاني فيتمثل بالتيار الإسلامي المتشدد في حالة وصوله إلى السلطة أو شق هذا التيار عصا الطاعة على السلطة السياسية في طرابلس. وعلى كل حال فان الشعب الليبي قد اثبت للعالم بأنه شعب مناضل وجلد يستحق منا كل الاحترام وتحية لهذا الشعب العظيم ومبارك لهم وللعالم الحر ثورة ليبيا.  

الخميس، 18 أغسطس 2011

الحياة النيابية في العراق في العصر الحديث والمعاصر


       تعد الحياة النيابية الوجه الأمثل للديمقراطية ، إذ يمثل الشعب نواباً عن طريق الانتخابات في مجلس يعرف عادة بمجلس النواب وينوب هؤلاء عن الشعب في تشريع القوانين أو المصادقة عليها واتخاذ القرارات ومناقشة قضايا منتخبيهم ومطالبة الحكومة بمعالجة مشاكل الشعب ، فضلاً عن مراقبة أعمال الحكومة ، إذ أن مجلس النواب يمثل السلطة التشريعية والرقابية في البلاد .
       مر العراق بادوار مختلفة ، وأصبحت أراضيها مركزاً لدول عديدة سواء تلك التي خرجت من رحمها أو تلك التي غزتها وآل أمره إليها ، وكان لكل واحدة منها نظامها الخاص في إدارة البلاد . ففي العصر الحديث ، خضع العراق لسيطرة الدولة العثمانية ، إذ استطاعت تلك الدولة من فرض هيمنتها على البلاد خلال السنوات 1515-1918 ، وقد قسم العثمانيون العراق إلى عدة ولايات من الناحية الإدارية ، وقد اعتمدوا في المناطق التي سيطروا عليها على نظام الإقطاع العسكري في إدارتها ، وكان العراق من بينها ، ولم تأخذ الدولة العثمانية بالديمقراطية النيابية حتى سنة 1876 ، عندما تم اعتماد دستور لها ولأول مرة منذ تأسيسها في سنة 1299 ، وذلك بفضل عدد من المثقفين والمتنورين المتأثرين بالحضارة الأوربية وفي مقدمتهم مدحت باشا .
       أعلن السلطان عبد الحميد الثاني (1876-1909) مع بداية تسلمه مهام السلطنة في الدولة العثمانية عن أول دستور للدولة ، وقد أكد الدستور في بعض مواده على تأسيس مجلس يتشكل من عدد من النواب عن طريق الانتخابات يمثلون الولايات العثمانية كافة حسب الحجم السكاني لكل ولاية . وقد تم الإيعاز إلى الولايات كافة بوجوب انتخاب ممثلين عنها ليكونوا أعضاءً في المجلس الذي عرف بـ (مجلس المبعوثان) .
       لم تستند الانتخابات التي جرت في سنة 1876 إلى أساسٍ دستوري ، لأنها كانت الخطوة الأولى في مسيرة الديمقراطية في حياة الدولة العثمانية ، واعتمدت على معلومات مؤقتة ، اسند أمرها إلى الإدارات المحلية في الولايات (مجالس البلدية) لعدم وجود قانون خاص بالانتخابات ، وقد تم بالفعل اختيار عدد من الشخصيات العراقية المشهورة والمتنفذة وقتئذٍ ليمثلوا الولايات العراقية الثلاث (الموصل ، بغداد ، البصرة) .
       عقد مجلس المبعوثان العثماني أول اجتماع له في آذار سنة 1877 ، وبدأ المجلس أعماله في الأيام اللاحقة ، وكانت من أعماله إصدار قانون الانتخابات لمجلس المبعوثان في 13 كانون الأول 1877 ، ولم يتواصل المجلس في أعماله طويلاً ، إذ ما أن توفرت الفرصة المناسبة للسلطان عبدالحميد الثاني حتى بادر إلى حله في نهاية سنة 1877 وعلق الدستور الذي قبله على مضض مع بداية توليه السلطنة ، بحجة اندلاع الحرب الروسية العثمانية في السنة نفسها مدعياً بان الحرب تحتاج إلى قرارات سريعة وجريئة ، والمجلس والدستور يشكلان تهديداً كبيراً للدولة في مثل تلك الحالات الاستثنائية وبذلك انتهى مصير التجربة الأولى للديمقراطية في الدولة العثمانية إلى المجهول .
       أرى من المفيد الإشارة إلى بعض المواد التي وردت في قانون الانتخابات والتي أصبحت أساساً في قانون الانتخابات في العراق بعد تشكيل الدولة العراقية سنة 1921 مع إجراء بعض التغييرات الطفيفة عليه ، فقد نص القانون على اعتبار كل لواء دائرة انتخابية وكل نائب يمثل خمسين ألف نسمة من الذكور ، وتجرى الانتخابات على درجتين (الانتخاب غير المباشر) ، وأما طريقة الترشيح للنيابة هي أن يقدم الشخص طلباً إلى الوالي ، أو أن يرشحه عدد من الأهالي عن طريق مضبطة موقعة عن ما لا يقل عن (300) توقيع ، أو أن يرشحه الحزب الذي ينتمي إليه .
       بعد الانقلاب الذي حدث في سنة 1908 من قبل جمعية الاتحاد والترقي ، تم إعادة العمل بالدستور ، ودعت الحكومة الجديدة الولاة إلى إجراء الانتخابات في عموم ولايات الدولة ، وقد سارت الانتخابات بهدوء في عموم البلاد ، وأسفرت عن تشكيل مجلس المبعوثان، وجرت انتخابات في عدة دورات لاحقة حتى قيام الحرب العالمية الأولى سنة 1914 ، إذ فقد المجلس كثير من هيبته وشرعيته بعد أن فقدت الدولة أجزاءً واسعة من أراضيها ، ومن الملاحظ في الانتخابات التي جرت في عهد الاتحاديين ، بأنها لم تكن نزيهة مطلقاً باستثناء الدورة الأولى للمجلس  بسبب سيطرتهم على العملية الانتخابية .
       بدأ العراق يخرج شيئاً فشيئاً من دائرة النفوذ العثماني ، إذ دخلت القوات البريطانية الأراضي العراقية في سنة 1914 ، وبدأت تتجه شمالاً حتى استطاعت إكمال احتلالها للعراق في سنة 1918 ، وأخضعت البلاد للإدارة العسكرية البريطانية ، ولم يكن الانكليز يريدون للحكم العسكري أن يستمر طويلاً ، إذ بادروا في سنة 1918 إلى إجراء استفتاءٍٍ لتحديد شكل الحكم في العراق ، وكان الاستفتاء يدور حول المسائل الثلاث الآتية .
1-  تشكيل حكومة عربية مستقلة تحت حماية بريطانيا .
2-  رئاسة الحكومة من قبل أمير عربي .
3-  الشخص الذي يرغبون في رئاسته للدولة العراقية .
ومع أن الاستفتاء يعد مظهراً ديمقراطياً ، إلا انه لم يجرِ في جو ديمقراطي ، فقد استخدم الانكليز سياسة البطش والإرهاب ، فضلاً عن عدم شمول الاستفتاء أغلبية سكان البلاد من أهل الريف والبدو وبعض سكان المدن ، وبالأحرى فقد اقتصر الاستفتاء على بعض الوجهاء من سكان وشيوخ العشائر المؤيدين لسياسة الانكليز ، فضلاً عن عدم اشتراك مناطق واسعة في الاستفتاء بسبب المقاطعة أو نتيجة للظروف الأمنية  كما الحال بالنسبة لمنطقة السليمانية ومناطق أخرى من كوردستان ، وجاءت نتيجة الاستفتاء متناغمة إلى حد ما مع الطموحات الانكليزية ، إذ اشترطت اغلب المضابط الحماية البريطانية وتأجيل مسألة تعين أمير عربي .
كان لثورة العشرين أثر واضح في إسراع الانكليز في مسألة تشكيل الدولة العراقية ، فقد بادروا أولاً إلى تشكيل الحكومة العراقية المؤقتة في السنة نفسها ، ومن ثم تم تهيئة الأجواء المناسبة لتشكيل الدولة العراقية في سنة 1921 ، ثم أخذت فكرة تأسيس مجلس عراقي منتخب كخطوة أولية لتشكيل مجلس نيابي عراقي ، ولاسيما بعد أن تم الاتفاق على أن يكون نظام الحكم في العراق نظاماً ملكياً نيابياً ، وقد شُكلت لجنة الانتخابات العراقية لإعداد الترتيبات اللازمة لانتخابات المجلس التأسيسي ، وكان أغلب أعضائها من النواب السابقين في مجلس المبعوثان العثماني ، وكانت مهمة المجلس تتلخص في ثلاثة مسائل أساسية هي :
1-  المعاهدة العراقية البريطانية لسنة 1922 .
2-  القانون الأساسي العراقي (الدستور) .
3-  قانون انتخابات مجلس النواب العراقي .
بدأت انتخابات المجلس التأسيسي العراقي في سنة 1922 بالاستناد إلى قانون انتخابات مجلس المبعوثان العثماني ، مع إجراء بعض التغيرات الخاصة بالتمثيل النيابي ، لكن الانتخابات لم تستكمل في حينها حتى سنة 1924 بسبب الظروف التي مرت بها البلاد ، إذ شهدت الساحة العراقية انتفاضات في مناطق مختلفة ، فضلاً عن إن منطقة السليمانية كانت خارج دائرة السلطة المركزية .
أسفرت الانتخابات عن انتخاب (88) نائباً يمثلون (14) لواءً ، وشرع المجلس في أعماله بمناقشة المعاهدة العراقية البريطانية وصادق عليها في حزيران 1924 ، ومن ثم تم مناقشة الدستور وصادق عليه في 10 تموز 1924 ، انتقل المجلس إلى مناقشة قانون الانتخابات وتم مصادقته في 2 آب من السنة نفسها ، وبذلك انتهت مهمة المجلس ، واصدر الملك فيصل أمراً ملكياً بحل المجلس التأسيسي في 3 آب 1924 .
مع حل المجلس التأسيسي ، دعا الملك إلى العمل من اجل وضع الترتيبات اللازمة لانتخابات مجلس النواب لتمثيل الشعب العراقي بالاستناد إلى ما جاء في بنود أول دستور دائم للعراق وهو الذي يعرف تاريخياً بدستور سنة 1925 ، إذ رسم الدستور نظام الحكم في البلاد فقد أكدت المادة الأولى منه على إن "العراق دولة ذات سيادة وهي حرة مستقلة وملكها لا يجزأ ولا يتنازل عن شيء منه وحكومتها ملكية وراثية وشكلها نيابي" ، كما جاءت في المادة (28) منه أن "السلطة التشريعية منوطة بمجلس الأمة مع الملك ومجلس الأمة يتألف من مجلس الأعيان النواب" ، أما مجلس الأعيان لا يتجاوز عددهم عن عشرين شخصاً يعينهم الملك ومدة العضوية فيه ثماني سنوات في حين أن مجلس النواب يتألف بالانتخاب بنسبة نائب عن كل عشرين ألف نسمة من الذكور فقط ، ودورة المجلس أربعة اجتماعات لكل سنة اجتماع ويجتمع المجلس ستة أشهر من كل سنة اعتباراً من 1 كانون الأول ، وللملك الحق في دعوة المجلس لاجتماعات غير اعتيادية في حالة وجود ضرورة لذلك ، ويعد النائب ممثلاً لكل العراق في حال فوزه بالانتخابات وليس عن منطقته الانتخابية فقط . وقد وضح قانون الانتخابات الشروط الواجب توفرها في المرشح والناخب ، كما بيَّن القانون نفسه الدوائر الانتخابية وعدد المقاعد لكل لواء وتمثيل الأقليات الدينية ، فضلاً عن الأمور المتعلقة بالدعاية الانتخابية وطريقة الانتخابات ، إذ نصت على إجرائها وفق نظام الانتخابات على درجتين ، وبقي ذلك النظام معمولاً به حتى سنة 1952 ، عندما اخذ المواطن يصوت لصالح المرشح بشكل مباشر .
على الرغم من السلبيات التي رافقت الحياة النيابية في العهد الملكي (1925-1958) ، ومنها تدخل الحكومات في الانتخابات ، وحل مجلس النواب ، إذ انه وخلال (16) دورة انتخابية ، لم تستكمل منها سوى ثلاث دورات انتخابية مدتها القانونية ، إلا أنه يمكن القول بان الحياة النيابية مرت بأفضل مراحلها منذ أن عرف العراق الحياة النيابية ولغاية يومنا هذا . وقد تعثرت الحياة النيابية بعد ذلك التاريخ كثيراً ، إذ توقفت الحياة النيابية مع قيام ثورة 14 تموز 1958 التي قضت على الملكية في العراق ، وحل النظام الجمهوري محلها ، وعطل دستور سنة 1925 ، وبدأ مجلس قيادة الثورة (الضباط الأحرار) الذي كان يضم ابرز الضباط الذين قادوا الثورة ، يمارس السلطة التنفيذية والتشريعية في البلاد ، وتم الإعلان عن دستور مؤقت في أمل سن دستور دائم في فترة لاحقة ، ويبدو أن العراق ومنذ ذلك التاريخ لم يتخذ دستوراً دائما حتى سنة 2005 . بل أن الثورات العديدة والحروب التي خاضتها البلاد ضد الدول المجاورة جعلت منها الحكومات العراقية مسوغاً في عدم اتخاذ دستور دائم للبلاد .
لا يمكن بأي شكل من الأشكال إنكار وجود مظاهر الديمقراطية النيابية بعد تولي حزب البعث الحكم في العراق سنة 1968 ، فقد عمل النظام الجديد على تصفية نفوذ التيارات المختلفة داخل الحزب ، ومن ثم البدء بالأحزاب المناوئة للسلطة ، ولاسيما الحزب الشيوعي العراقي الذي يعد أقدم حزب عراقي متواصل مع جماهيره ويمارس نشاطه حتى ذلك الوقت ، ومع استتباب الوضع في البلاد لصالح حزب البعث حتى قرر تشكيل مجلس وطني عن طريق الانتخاب المباشر ، فقد اتخذ الحزب خلال المؤتمر القطري الثامن له في سنة 1974 قراراً بذلك ، وتم بالفعل أجراء انتخابات في عموم البلاد ، وأسفرت نتائجها عن تشكيل المجلس الوطني العراقي ، وقد فاز الحزب الحاكم بالأغلبية المطلقة مع وجود بعض الشخصيات المستقلة ، ويمكن القول ونحن في صدد حكم حزب البعث ، بان الديمقراطية الحقيقية كانت غائبة عن الساحة ، إذ ليست هناك أحزاب معارضة ، ولا معارضة داخل البرلمان والقول الفصل لمجلس قيادة الثورة ، ولم يكن المجلس سوى صورة للديمقراطية المفرغة من محتواها، وطوال الفترة 1979-2003 ، لم يرشح احد العراقيين لمنصب رئيس الجمهورية مطلقاً ، وعندما اجري استفتاء سنة 1999 ، فقد حصل الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين (1979-2003) على 99.99% من الأصوات مما يدل على زيف الاستفتاء ، ولاسيما كانت هناك معارضة مسلحة تقود نضالاً مريراً ضد السلطة في أهوار وجبال العراق ، وكانت لها شعبية كبيرة في تلك المناطق ، إلا أن القوة القاهرة والبطش والخوف الذي كان يعيشه المواطن العراق أدى به إلى أن يفعل بما يملى عليه ، ولم يكن يمتلك الإرادة ولا حرية الاختيار .
بعد أن تمكنت الولايات المتحدة الأميركية وحليفاتها من احتلال العراق في نيسان سنة 2003 ، تغيرت الخارطة السياسية العراقية رأساً على عقب ، فسرعان ما غزت الأحزاب السياسية الساحة العراقية ، كل منها تطالب بنصيبها من كعكة السلطة التي قدمتها لها الآلة العسكرية الأميركية على طبق من ذهب ، ويبدو أن سقوط نظام البعث فتح الباب على مصراعيه للأحزاب السياسية ذات ألوانٍ غير متجانسة ، فمنها دينية ومذهبية وقومية ومناطقية وعشائرية وهلم جرا ، إلا انه ومع الحمية التي دخلت بها تلك الأحزاب في الميدان السياسي ، إلا أن السلطة الحقيقية كانت بيد السفير الأميركي بول بريمر .
وفيما يتعلق بالحياة النيابية فان بريمر والأحزاب السياسية تمكنوا من قيادة البلاد في تلك الظروف الصعبة ، ولاسيما في ظل غياب مؤسسات الدولة ، وقد تم تشكيل حكومة مؤقتة برئاسة الدكتور إياد هاشم علاوي زعيم حركة الوفاق الوطني ، وتم تشكيل هيئة سياسية في تموز 2003 تتولى مهام رئاسة البلاد وهي اقرب إلى أن يكون مجلس شورى عرف بـ (مجلس الحكم) يتكون من (25) شخصاً، يترأس تسعة منهم المجلس لمدة شهر وحسب الحروف الهجائية ، كما تم سن قانون أشبه بالدستور عرف بـ (قانون إدارة الدولة المؤقت) بقيت اغلب بنودها حبراً على ورق ، لكنه كان خطوة متقدمة لوضع دستور دائم للبلاد ، وبانتهاء صلاحية المجلس في حزيران 2004، تم تشكيل الحكومة العراقية المؤقتة في 28 حزيران من السنة نفسها برئاسة الدكتور اياد هاشم علاوي، وقد تم انتخاب عدد من النواب حسب نسبة السكان شكلوا المجلس الوطني العراقي ، وعلى اثر ذلك تم تشكيل حكومة انتقالية في كانون الثاني 2005 برئاسة الدكتور إبراهيم الجعفري رئيس حزب الدعوة الإسلامية آنذاك، واستطاعت هذه الحكومة أن تنجز انتخابات مجلس النواب ، ويبدو إنها المرة الأولى في حياة جمهورية العراق استطاع فيها المواطن العراقي من الإدلاء بصوته بحرية ، إلا أن حب التغيير وغياب الوعي السياسي عند المواطن وانقطاعه عن العالم الخارجي لفترة طويلة جعل منه أسير الشعارات والعواطف مما أدى به أن ينتخب أشخاص لا يعرف عنهم شيئاً ، ولاسيما أن الانتخابات جرت وفقاً للقوائم المغلقة والدائرة الواحدة . ومهما يكن من أمر ، فان نتيجة الانتخابات أسفرت عن تشكيل مجلس النواب الذي صادق على دستور العراق الدائم، وكان اعتماده يتوقف على مصادقة الشعب العراقي عليه في استفتاء عام ، وعرض الدستور بالفعل لاستفتاء عام في سنة 2005 ، وجاءت أصوات المستفتين لصالح إقرار الدستور بأغلبية الأصوات ، إذ حصل على أكثر من 70% من الأصوات .
إن التجربة الديمقراطية في العراق لا زالت في مراحلها الأولى ، وهي خطوة مهمة ، لكن نجاحها غير مضمون حتى وقتنا الحاضر ، لان الظروف التي ولدت فيها لم تكن مواتية ، ولم تهيأ الأجواء المناسبة لها ، بل جاءت مستوردة من الخارج ، ولاسيما أن التعليم كان ولا يزال في المستويات الدنيا ، وانقسام الأمة على نفسها ، وعدم وجود استقرار سياسي ، وغياب الأمن ، واستشراء الفساد في جميع مؤسسات الدولة باستثناء دوائر الأنواء الجوية ، وغياب روح المواطنة ، وتباين المستويات الاقتصادية ، واغلب المواطنين يعيشون تحت خط الفقر ، فضلاً عن غياب السيادة الحقيقية ، وولاء الأحزاب لأطراف ودول تخدم الأجندات الخارجية وغيرها.

الثلاثاء، 16 أغسطس 2011

القيم الاخلاقية بين الادعاء والحقيقة


القيم الأخلاقية بين الادعاء والحقيقة
قبل أكثر من شهر قرأت في إحدى الصحف المحلية الصادرة في مدينة كركوك، بأن الشرطة أعلنت عن أن عمال النفايات قد عثروا على وليد في محل اعتاد العراقيون أن يرموا نفاياتهم في اقرب مكان شريطة أن لا يؤثر ذلك عليهم فقط، دون أن يكترثوا لما سيترك من تأثيرات سلبية على الجيران أو الآخرين أو على البيئة فذلك أمر لا يفكرون به مطلقا. وذكرت بأن جسمه الطري قد نهشته الكلاب السائبة أو لربما حيوانات أخرى والله اعلم. وقد فاجأتنا الصحيفة نفسها في خبر لاحق بان طفلا آخر قد تم العثور عليه وهو في قماطه في مكب آخر للنفايات. والجدير بالملاحظة أن كاتب المقال ولا اعلم هل من باب السخرية أم غير ذلك قال بان هذا الطفل كان أوفر حظاً(وأي حظ لذاك الصغير!!!) من السابق، لماذا ؟، لان الأخير قد تم العثور عليه حياً ويعود ذلك حسب الكاتب إلى أن الكلاب السائبة قد تعرضت إلى حملة إبادة جماعية . والحقيقة أن الإبادة الجماعية سواء بالنسبة للحيوان أو الإنسان فحالة ليست بغريبة في وطن الكل يدعي بأنه يحبه ويعشقه حد الجنون. فتاريخ هذه البلاد حافل بالمجازر والإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية سواء أكان ذلك بيد حكامها أو المحتلين على حد سواء. وبالعودة إلى موضوعنا الأساسي فقد قرأت بعد فترة قصيرة خبرا آخر مفاده أن شرطيا - ولكن هذه المرة الحالة في مدينة عراقية أخرى- قد اكتشف أن زوجته تخونه وهنا اذكر بان المصدر لم يبين هل الرجل وجد زوجته متلبسة بالجرم أم انه شك في أمرها، لكن النتيجة كانت بشعة إلى حد لا يمكن تصورها إلا في المجتمع الشرقي، فقد بادر الشرطي إلى قتل زوجته بالرصاص ثم وجه سلاحه تجاه أولاده الثلاثة فأرداهم قتلى في الحال.
إن مجتمعنا الذي طالما نتباهى به ليس في مجال آخر كالتطور والتقدم التكنولوجي والعدالة، بل فقط في الجانب الأخلاقي فيما يعلق بالفساد الجنسي، لان هذا المجتمع أكثر ما يفكر به هو الجنس. فمجالسنا ومسامعنا أكثر ما تطرب أذانها الكلام عن النساء والجنس، وطبعا هنا لابد أن نُذكِرَ بأن في مثل الحالة الأخيرة سيشد المقربون من الشرطي على يده لأنه قد غسل العار الذي لحق به، ولربما نحن أيضا كوننا احد أفراد هذا المجتمع لا نستطيع أن ندين قتله لزوجته لأننا أن فعلنا ذلك سوف نكون خارجين على المجتمع ولربما نكون عرضة لكل شيء لعل أخفها وطأة الانتقادات السلبية. ولكن في الوقت عينه لا يمكن أن أبقى ساكتا على جريمة ارتكبت بحق الأطفال الثلاثة الذين كانوا ضحية لأفعال وذنوب ليس لهم أي دور وإنما قدرهم أنهم أبناء امرأة زانية (طبعا بحسب زوجها والله اعلم). ومن المفيد قوله هنا أن الشرطي لربما مارس الزنا ولربما أنجب أيضا دون أن يعلم. ياترى ألا يستحق هذا الرجل أن ينال العقوبة نفسها التي أقامها على امرأته. أم أن الزنا أمر خاص بالمرأة فقط والرجل خارج هذه المعادلة. وربَّ شخص يجيب فيقول أن الدين الإسلامي قد ساوى في العقوبة بين الرجل والمرأة الزانيين. وهنا نقول يا ترى إلى أي حد المجتمع الإسلامي ملتزم بقواعد الدين الإسلامي الحنيف. فان هذا المجتمع بدأ يتعامل مع الإسلام حسب مصلحته يأخذ من تعاليمه ما يريد ويترك ما يتعارض وعرفه الخاص الذي صنعه لنفسه بحجة انه ملتزم بالأعراف والتقاليد في المجتمع دون أن يقيم وزنا لتعاليم الإسلام.
وبالعودة إلى المقارنة بين مجتمعنا والمجتمعات الأخرى. وهنا نثير السؤال الآتي: إذا ما وقعت هذه الإحداث في تلك المجتمعات فكيف كانت ستتعامل معها؟. ولاسيما إننا عندما نذكر تلك المجتمعات ولاسيما المجتمع الغربي فإننا نصفها بالمجتمعات المنحلة أخلاقياً وهذه الحالات لا تثير زوبعة أو إلى ما ذلك لأنها من الأمور الطبيعية حسب نظرتنا لتلك المجتمعات. أن هذه الأمور وان كنا قليلاً نسمع بها في مجتمعاتنا إلا أنها متفشية إلى حد كبير والحقيقة ليس أقل من المجتمعات الأخرى إلا أنها تحدث تحت جنح الليل أو بعيدا عن الأنظار ولا تظهر للعلن إلا قليلا. لكن التعامل مع هذه الحالات يختلف بيننا وبين المجتمعات الأخرى. فالقتل للمرأة في هذه الحالة أسمى عمل يقوم به اقرب المقربين لها. بينما الرجل لربما بعد فترة وجيزة ينسى فعلته ونتائجها. وليس بعيدا أن يعود مرة أخرى إلى مثل هذه الأفعال ويتسبب في قتل أخريات. وفي المجتمع العشائري مثل هذه يترتب عليها نتائج خطيرة تؤدي في الأحيان إلى اقتتال بين عشريتين ينتهي بعضها بخسائر بشرية في الطرفين. هذا إذا تم كشف المستور وتم التعرف إلى الزاني، وفي أغلب الأحيان، وبعد قتل المرأة يقوم الزاني بإعطاء أخته أو إحدى قريباته إلى عائلة المرأة الزانية وسواء كان ذلك برغبتها أو إجبارها على ذلك. فأي حقوق حفظت للأخيرة وهذا أمر يسير في هذا المجتمع. وأما قتل الجنين ورمي طفل ليلقى مصيره إما الموت أو أن يلتقطه بعض السيارة (المارة) ليجد نفسه في ملجأ للأيتام غالبا لا تتوفر فيه مستلزمات الحياة الكريمة بالمقارنة ما توفرها المجتمعات الغربية من عناية لمثل هذه الحالات.
أن القضية الكبيرة والجريمة غير المبررة في مثل هذه الحالات تتعلق بمصير الجنين أو الطفل كما في الحالات الثلاثة التي اشرنا إليها. فكيف نتعامل نحن معها وكيف تتعامل المجتمعات الأخرى حيال هذه المسائل وأيهما يا ترى أكثر حفظا لحقوق وحياة وكرامة الإنسان؟.
مما لا ريب فيه إن الجنين أو الأطفال لا ذنب لهم سواء أكانوا شرعيين أو غير ذلك، وليس لأي شخص أن يقوم بسلب هؤلاء النفحة الربانية التي وهبها الله للإنسان فكانت الحياة. وبعد أن تبين لنا من خلال الأمثلة التي ذكرناها التي تمثل حالة شبه عامة في مجتمعنا ولم أجد ولم أجد أي نص في شريعة سماوية كانت أم (وضعية) يبيح قتل الطفل غير الشرعي ولا حتى إسقاط الجنين، فأيهما من الكبائر الإسقاط والقتل من اجل إخفاء جريمة حفاظا على ماء الوجه أم القيام بالواجب الإنساني والمتمثل بتربية الأطفال سواء من خلال العائلة نفسها أو عن طريق إرسالهم إلى دور وملاجئ الأيتام. ما نحن نقوم به في مجتمعنا هو قتل للجنين والطفل أما المجتمعات الأخرى فتبادر إلى تربية هؤلاء الأطفال في أماكن مخصصة لتربيتهم وتعمل على توفير جميع حقوقهم دون أي تمييز، بل أن هناك عائلات كثيرة مستعدة لتبني هؤلاء. فإيانا أكثر إنسانية وأخلاقاً؟!!!.
لقد تعاملت القوانين الدولية بكثير من الرأفة والعدل إزاء هذه الحالات، بل إن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة 1948 الذي يعد الدستور الذي استندت إليه القوانين الدولية، لم يميز بين الطفل الشرعي وغير الشرعي على الرغم من ذكره للطفل غير الشرعي إذ كان يرى البعض أن الإعلان ميز بينهما مجرد بذكره كلمة غير شرعي، إلا أن الإعلان ذكر ذلك للتأكيد على المساواة التامة بينهما وضرورة أن يحصل الطفل على جميع حقوقه حاله في ذلك حال الأطفال الآخرين، بل أن في مثل هذه الحالات فان المجتمع والدولة عليهما أن يتحملا المسؤولية الكاملة، فقد نصت الفقرة الثانية من المادة (25) من الإعلان العالمي على ضرورة حماية الأطفال دون تمييز إذ ذكرت إن ((للأمومة والطفولة الحق في مساعدة ورعاية خاصتين، وينعم كل الأطفال بنفس الحماية الاجتماعية سواء أكانت ولادتهم ناتجة عن رباط شرعي أم بطريقة غير شرعية)). ومع أن اتفاقية حقوق الطفل التي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في 20 تشرين الثاني 1989، وتم البدء بتنفيذها في أيلول 1990، لم تتناول تفاصيل حقوق الطفل في مثل الحالات التي ذكرناها، إلا أنها أشارت بصورة واضحة إلى ضمان المحافظة على حياة الأطفال وتوفير حياة كريمة لهم. فقد أكدت المادة (6) من الاتفاقية المذكورة أعلاه على ضرورة أن تقوم الدولة بحماية الأطفال فقد نصت الفقرة الأولى من المادة السادسة ((تعترف الدول الأطراف بان لكل طفل حقاً أصيلا في الحياة))، كما أن الفقرة الثانية من المادة نفسها نصت على أن على أن ((تكفل الدول الأطراف إلى أقصى حد ممكن بقاء الطفل ونموه)). وقد وضعت الاتفاقية آلية مناسبة لضمان حياة كريمة للطفل، إذ أكدت المادة (20) من الاتفاقية بأن للطفل المحروم بصفة مؤقتة أو دائمية من بيئته العائلية الحق في حماية ومساعدة خاصتين توفرهما الدولة أو أن تقوم اسر راغبة في القيام بهذه المهمة، اما عن طريق الكفالة القانونية بالنسبة للدول التي لا تسمح قوانينها بالتبني أو عملية التبني بالنسبة للدول التي تسمح قوانينها بذلك.
إن هذا العرض المختصر حول كيفية تعامل القوانين الدولية مع حقوق الأطفال الذين يفقدون حماية أسرهم لأسباب شتى بما فيها الحالات التي تخص موضوعنا. نرى أن الذي تعرض له الأطفال الذين تحدثنا عنهم يعد جريمة بكل ما تحمله الكلمة من معنى. ويستحق المسؤولين عنها العقوبة المناسبة إذ نرى أنها لا تختلف بأي حال من الأحوال عن جرائم القتل العمد الأخرى. وإلا ما هو المبرر في ذلك، وهل يمكن عد إخفاء عمل مشين اقترفه أشخاص آخرين ليس للأطفال يد فيها مبرراً مشروعاً للقيام بهذا العمل الإجرامي. بل كان الأولى بهؤلاء أن يقوموا بأي شكل أو طريقة تسليم هؤلاء للسلطات حتى تقوم بدورها وليس رميهم في مكبات النفايات، لينالوا مصيرهم المحتوم وهو الموت فإذا لم يموتوا جوعا أو بردا أو لم تصل إليهم الحيوانات السائبة فستقتلهم الجراثيم والغازات التي تنبعث منها. أو إعدامهم بالرصاص كما لو ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية، فأي حضارة هذه وأي إنسانية هذه يا ترى من فينا أكثر إنسانية نحن أم أولئك الذين نصفهم بالمجتمعات المنحلة وتفتقد إلى الأواصر العائلية وصلات الرحم. ألا تستدعي هذه الحالات وقفة منا ومراجعة لا حتى نقتفي أثرهم، بل لنصلح أنفسنا ونكف عن وصف الآخرين بالفساد الأخلاقي، والجدير بالذكر بان الأغلبية فينا أن لم يكن الجميع يتفقون أن المجتمعات الأخرى أكثر صدقا منا وأكثر إخلاصا في إعمالهم واقل منا مضيعة للوقت ونادرا ما يحتاج المواطن إلى رقيب، ولم يكن لنا شيء نتباهى به أو لنا الأفضلية فيه سوى المسائل الأخلاقية، وإذا كان هذا هو حالنا. فماذا بقي لنا نفتخر به؟. تاريخنا المجيد الذي لا يغني من جوع، أم حضارتنا التي اندثرت دون أن نبذل جهدا صادقاً في إحيائها أو حتى المحافظة عليها. ولربما يقول البعض أن الحالات التي ذكرناها حالات نادرة، أتمنى أن يكون القارئ منصفا للحكم ويتابع ويسمع ما يدور في مجتمعاتنا الشرقية ليرى بنفسه إنها حالات عامة ولكن الإعلام والمراكز البحثية ومنظمات المجتمع المدني نادرا ما تتطرق إلى مثل هذه الحالات. اما لأنها تخشى ما كنت أخشاه أنا أو إنها لم تصل إلى مرحلة من النضوج لتعلن وتحلل وتعالج مثل هذه الحالات.

الجمعة، 12 أغسطس 2011

الديمقراطية في المجتمع اليوناني القديم


    كانت المدن اليونانية قديماً مستقلة بعضها عن البعض الآخر ، وتعود إدارة المدن الإغريقية القديمة إلى حدود الألف الثالث قبل الميلاد ، إذ كانت الإدارة وقتئذ تتركز في يد رئيس القبيلة ، إذ يقوم الأخير بإدارة المدينة دون الرجوع إلى القبيلة أو أبناء المدينة إلا في الحالات التي تستوجب الاجتماع ، إذ كان عندئذ يدعو الذكور من الأحرار فقط إلى اجتماع عام في ساحة المدينة أو وسطها ، ويعرض عليهم مقترحاته وآرائه بشأن المسألة التي اجتمعوا لأجلها ، ويعلن المجتمعون عن قبولهم أو رفضهم للآراء المطروحة .
       عرفت المدن اليونانية القديمة نوع من الديمقراطية التي لم تخلو من عيوب ، فقد تجاهلت الديمقراطية حقوق طبقة كبيرة من سكان المدن ، وهي طبقة العبيد ، إذ أنهم كانوا خارج مقياس المواطنة لدى اليونانيين بما فيهم الفلاسفة من أمثال أفلاطون وأرسطو الذين أقروا بمبدأ الديمقراطية على الرغم من أن الديمقراطية عندهما وعند الآخرين من الفلاسفة اليونانيين لم تكن ديمقراطية بالمعنى الصحيح ، فقد أكدوا على وجوب بقاء السلطة في يد الحاكم ، ويجب أن لا تتجاوز السلطة النخبة من أبناء البلاد ، إذ انه غالباً ما وصفت الديمقراطية من قبل بعض الفلاسفة بـ (حكم الرعاع) ، مع إيمانهم بان السلطة من إرادة الشعب ، فقد قال أفلاطون "إن الإرادة المتحدة للمدنية هي مصدر السيادة ، كما أكد أرسطو على إن "السلطة تنبع من الجماعة وليس من شخص الحاكم ، وان خير الحكومات هي الحكومة التي يسود فيها القانون" .
       كانت أثينا من أشهر المدن اليونانية وأقدمها معرفة بالنظام الديمقراطي ، وكانت الديمقراطية المباشرة هي السائدة وقتئذ ، كانت الاجتماعات الدورية تعقد في ساحة عامة وسط مدينة أثينا ، ينظر المجتمعون خلالها في شؤونهم السياسية والدينية بصورة مباشرة ، وكان الاجتماعات من هذا النوع تعرف بـ أكليزيا (Ecclesia) ، وقد أتاحت تلك الاجتماعات فرصة كبيرة أمام المواطنين للمساهمة في إبداء آرائهم والتصويت على القرارات التي تصدرها الحكومة بالقبول أو الرفض .
       لقد تجلت مظاهر الديمقراطية في أثينا بشكل واضح على يد كليشنيس (Cleishenes) في حدود سنة (508 ق.م) ، فقد أرسى هذا الحاكم أسس الديمقراطية فيها ، إذ أقدم على تقسيم المواطنين إلى عشرة قبائل ، وأوجد نظاماً للحكم أتاح من خلاله المساهمة الفعالة للمواطنين في السلطة ، وفضلاً عن ذلك فقد عرفت أثينا نظاماً دقيقاً لرقابة السياسية مثل إشراف المحاكم على أعمال الموظفين بعد انتهاء خدمتهم ، كما أن لها الصلاحية في مراقبة التشريعات وقبولها أو رفضها ، مما جعل سلطتها تشبه في بعض الحالات السلطة التشريعية لمجلس النواب في الوقت الحاضر .
       على الرغم من ازدهار الديمقراطية المباشرة في أثينا وبعض المدن اليونانية الأخرى ، إلا أنها غابت بعد انهيار سلطة تلك المدن ، ولاسيما أثينا ، إذ أنها كانت في صراع مع المدن الأخرى ، وبعضها تمارس حكما استبدادياً بعيداً كل البعد عن الديمقراطية مثل إسبارطة ، وبدأ يحل محل النظام الديمقراطي حكم الارستقراطية أو النخبة ، ويبدو أن المثقفين من اليونانيين ولاسيما الفلاسفة كانوا يفضلون حكم النخبة ، وقد وصف سقراط الديمقراطية بحكم الرعاع وكذلك أكد بان الديمقراطية استبداد الفقراء للأغنياء ، وأيده تلميذه أفلاطون الذي رأى ضرورة حكم النخبة لأن العامة كانوا عاجزين عن المشاركة في الحكم وإدارة البلاد .
       لقد ظهرت شخصيات بين الحين والآخر آمنت بحرية الرأي والتعبير والمشاركة في الميدان السياسي ، وعملت على تأسيس نظام للحكم يكون للأغلبية في المجتمع دور في إدارة دفة البلاد بالشكل الذي يلائم واقع المجتمع ، والمجتمع اليوناني أ كان من المجتمعات الحضارية البارزة التي أنجبت من تلك الشخصيات الكثير ، ولاسيما إن الإرث الديمقراطي اليوناني كان لا يزال نافذ المفعول في البلاد . وقد كان سولون (560-460ق.م) أحد تلك الشخصيات المهمة التي قدمت للحضارة المدنية اليونانية الكثير ، إذ كان سولون يمتلك شعبية واسعة بين المواطنين الأثينيين ، فقد كان أديباً شاعراً مسموع الكلمة لدى عامة السكان ، وقد استطاع سولون عن طريق أشعاره أن يوصل أفكاره إلى الجماهير ، فضلاً عن كونه رجل نبيل ويتملك صفات قيادية ، مما أسهم في انتخابه حاكماً من قبل أهل أثينا ، وتم منحه سلطات خاصة تمثلت بإعداد التشريعات وسن القوانين .
       باشر سولون إصلاحاته الدستورية في أثينا سنة 494ق.م ، وتم بموجبها الاعتراف بالحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية لجميع الأحرار من أبناء المدينة بما فيهم الفقراء الذين كانوا محرومين من ذلك الحق سابقاً . وقد منحت إصلاحاته الحق للفرد في الوصول إلى مجلس المدينة والمشاركة في الحكومة ، وعدم استثناء أي شخص من أبناء البلاد الأحرار من ذلك الحق . كما عزز إرادة الشعب وسلطته عن طريق تأسيس محكمة عرفت بـ (محكمة هيليه) وهي محكمة شعبية تتألف من ستة آلاف عضو يتم اختيارهم بالقرعة من بين المواطنين الذين تجاوزت أعمارهم سن الثلاثين وقبلوا العمل فيها بشكل متطوعين ، وقسمت المحكمة فيما بعد إلى عشرة أقسام ، يتكون كل قسم منا من (501) عضو ، أما الباقون يشكلون الأعضاء الاحتياط ، وكانت أعدادهم تخضع لنوع وحجم القضية التي ينظرون فيها وأهميتها ، وقد أخذت المحكمة شيئاً فشيئاً تختص بقضايا الجرائم المدنية والسياسية التي لا يتعرض لها القانون . وكانت المحكمة تعقد جلساتها بطلب من أحد المواطنين أو مجموعة للنظر في قضية ما أو شكوى ، وكانت أحكامها غير قابلة للنقض .
       ومن الشخصيات التاريخية الأخرى التي ارتبطت الديمقراطية باسمه هو بركليس (490-429ق.م) ، فقد كرس بركليس جهوده لترسيخ النظم الديمقراطي في أثينا ، فقد كان بركليس يمقت القوانين التي تحد من الحريات ، وأكد على حرية الفرد وضرورة مراعاتها لكي يكون الفرد قادراً على أداء مهامه وواجباته تجاه المجتمع ، وفي الحقيقة ان الحريات في عهده كانت مصونة إلى حد بعيد ، فقد كانت حرية الرأي والنقد والنشر متوفرة ، وعدة كانت المسرحيات التي تنتقد السلطة تعرض ، دون أية مضايقات .
       كان بركليس يؤكد عل النظام الديمقراطي لا يتحقق الا بوجود الجماعة على رأس السلطة وليست القلة ، إذ قال في هذا الصدد في إحدى المناسبات "نحن نسمي نظام الحكم عندنا بالديمقراطية ، لأن الإدارة في أيدي جماعة من الناس ، لا في أيدي قلة منهم" ، كما أكد بركليس على أن الديمقراطية يجب أن تستند إلى أسس قانونية مبنية على الواقع ، وتعمد على نظام الثواب والعقاب ، فقد قال "... إن حرية الجميع هي أقوى روابط القلوب . ويشارك بعضهم البعض في الآمال والآلام ، ويحكمون أنفسهم بقلوب حرة يكرمون الخيريين ويعاقبون الآثمين وفق القانون ... ويعد من الوحشية أن يكره الناس بعضهم بعضاً بالقوة ، وان مهمة الرجال تحديد العدالة بالقانون والاقتناع بالعقل وأن يلتزموا بها في العمل متخذين من القانون سلطاناً ومن العقل معلماً" .
       إن ديمقراطية اليونان في العصور الغابرة ، لا يمكن عدها ديمقراطية حقيقية وفق المعيار المعتمد للديمقراطية في أيامنا هذه ، فقد شابتها عيوب كثيرة ، كانت بعضها جوهرية ، لاسيما ما يتعلق بالمواطنة . إذ كان المجتمع اليوناني ينقسم إلى طبقات وفئات ، نبلاء ورجال دين وعامة من مزارعين وعمال ومهنيين ، فيما كانت طبقة العبيد خارج قاموس المواطنة في الحضارة اليونانية حتى في أكثر العهود ديمقراطية ، وهو عهد بركليس . وفضلاً عن ذلك فان المواطنة اليونانية تقاس بالثروة ، لذا أصبحت امتيازاً لقلة من الناس تؤهلهم ثروتهم وأوقات فراغهم للتمتع بالوظائف السياسية وامتيازاتها ، والأمر الذي جعل المواطنة ميزة لا تنسحب إلا على عدد قليل من اليونانيين ، واستمر الوضع على ما هو عليه حتى عهد سولون الذي شرع للمساواة في الحقوق بما فيها الحقوق السياسية بين الأثينيين باستثناء طبقة العبيد .

الخميس، 4 أغسطس 2011

التطور التاريخي للديمقراطية في بريطانيا


تطور الديمقراطية في بريطانيا
       كانت الملكية المطلقة جاثمة على صدور الانكليز ، في الوقت الذي خفت وطأة الإقطاعية ، ودخلت البلاد في صراع بين طبقاتها التي لا تختلف عن المناطق الأوربية الأخرى ، فكان الصراع بين الملك ورجال الدين من جهة وبينه وبين الشعب من جهة أخرى ، فضلاً عن تطلع النبلاء إلى السلطة والنفوذ من جانب آخر ، فاجتمعت دوافع عديدة من اجل المطالبة بالإصلاح ، فكانت الثورة السبيل لتحقيق أهداف الشعب ، ووضع القوانين التي تحفظ حقوقه ، وكان الشعب الانكليزي يدرك حاجته إلى القوانين التي تنضم حياته وتحدد واجباته وترسم سياسة الحكام وتوضح صلاحياتهم .
       كان نتاج الصراع الدائر بين الملك جون (John) (1199-1216) والطبقة الارستقراطية التي أيدتها طبقات الشعب الأخرى ، صدور البيان التاريخي سنة 1215 الذي عرف بالعهد الأعظم (Magne Carta) ، إذ اضطر الملك جون على توقيعه نتيجة للثورة التي قامت ضده وأيدتها طبقات الشعب كافة ، فكانت أقدم وثيقة دستورية بحق ، على الرغم من إنها لم تنظم لأصول الحكم ، لأنها عدت الشعب الأساس ، ووضعت الملك تحت طائلة القانون ، وان الشعب هو مصدر السلطة وليس الملك .
       احتوت الوثيقة (63) مادة ، جوهرها يؤكد على ضمان حقوق الإقطاع في وجه الملك وحرية الكنيسة والحفاظ عل ممتلكاتها وحماية المدن وأبنائها من تعسف السلطة ، وحقوق النساء والأرامل ، والسيطرة على الضرائب من قبل مجلس العموم ، ومنعت المادة (39) السلطة من إيقاف أي إنسان أو اعتقاله دون حكم قضائي ، وكذلك مصادرة أملاكه أو انتزاعها بالقوة على وفق تصريح الملك جون : "لا يجوز القبض على أي شخص حر ، أو اعتقاله ، أو نزع ممتلكاته أو حرمه أو إبعاده أو إنزال الضرر به بأية طريقة كانت ، كما إننا لن نأمر باتخاذ إجراءات ضده ، إلا بواسطة أحكام قانونية تصدر عمن هم من طبقة مماثلة لطبقته ، وبمقتضى قوانين البلاد" ، وأعطت الفرد الحرية التامة في التنقل والسفر بأمان باستثناء فترة الحروب كما ورد في المادة (42) . وتعد تلك الوثيقة بحق حجر الزاوية في بناء حياة دستورية في بريطانيا ، ثم انسحبت على البلدان الأخرى ، إذ تعد رمزاً للتفوق على الملك ، وكذلك نقطة تحول في مجال الحريات ، والأساس في تنظيم المجتمع والدولة على أساس قانوني .
       لقد ساهم عدد من المفكرين والحركات الداعية إلى السيادة الشعبية والحكم الديمقراطي ، وتحديد سلطات الملك ومقاومة الحكام الفاسدين من أمثال وايكلف (Wycliff) وجون فيرتسكير (Forterguue) وروجر بيكون (Pikon) (1214-1292) ، وقد أصبحت أفكارهم مدعاة لظهور الحركات البيوريتانية (Puritanism) الداعية إلى عدم حصر السلطات في أيدي مجموعة قليلة تتمتع بالمال والسلطة ، وجعل نظام الكنيسة أكثر ديمقراطية واقل مركزية ، ويجب ان يأخذ الفرد مكانته ، ولقد لقيت تلك الحركات مقاومة عنيفة من قبل الملوك الانكليز والكنيسة . 
       تمتد جذور البرلمان البريطاني إلى القرن الرابع عشر ، فقد تم تشكيل برلمان في سنة 1326 ، يتكون من مجلسين هما مجلس اللوردات ومجلس العموم ، وبدا أول الأمر بشكل بدائي ، ثم سار نحو التكامل ، نتيجة للصراع الدائر على الساحة البريطانية بين الملك وفئات الشعب المختلفة بما فيهم المفكرين ورجال الدين وحركات البيوريتان والطبقة الوسطى والارستقراطية، وقد دام ذلك الصراع لمدة أربع سنوات ، نجمت عنه حرب أهلية استمرت أربع سنوات متتالية ، وكان للكتب التي نشرها توماس هوبز (Hobbes) (1588-1679) وما حملت من أفكار إنسانية ولاسيما كتابه (في المدنية) أثر كبير على الشارع الانكليزي ، وكذلك فعل آخرون من أمثال بوكانان (Buckanan) و كودمان (Goodman) ، كما أن أفكار جون لوك (1642-1704) ساهم في التطور البرلماني والترويج لحكم الشعب من خلال كتابه (في الحكم المدني) ، إذ قال "إن القوة الغاشمة غير المشروعة وحدها يجوز دفعها بالقوة ... وان الشعب الذي اضطهد باطلاً سوف يهب لدى أول فرصة تسنح له لطرح العبء الذي يثقل كاهله" ، كما أكد على مسألة الحرية والمساواة الطبيعية وعدم إخضاع الإنسان لسلطة إنسان آخر بالإكراه أو تسخيره دون موافقته .
       كانت سياسة الملك تشارلس الأول ، سبباً في الصراع الديني والسياسي ، إذ أدى ذلك الصراع إلى سوق عدد كبير من رؤساء الكنيسة ورجال الدين إلى حتفهم بيد جلاوزة الملك ، وكان تشارلس قد وجد تأييدا من قبل الأسقف لاود (Laud) ، مما دعاه إلى تعيينه رئيساً لأساقفة كونتربري ، وكان قد ساعد في تأجيج الصراع أيضاً زواج الملك من أميرة كاثوليكية حرضته على إعادة الحكم الإلهي المطلق ، وتحجيم دور البرلمان ، وقد ترتب عن تلك الأوضاع المتأزمة في البلاد اندلاع الحرب الأهلية في سنة 1646 ، واستمرت حتى سنة 1649 ، كانت نتيجتها مقتل الأسقف لاود ، ومحاكمة الملك بتهمة الخيانة ، وقررت المحكمة إعدامه ، وتم تنفيذ الحكم في سنة 1649 ، واتخذ البرلمان قراره التاريخي الذي جاء فيه :
1-  إن الشعب مصدر السلطات .
2-  إن ممثلي الشعب المختارين من قبل الشعب لتمثيله هم الذين يملكون زمام السلطة في الدولة .
3- إن كل ما يتخذه مجلس العموم من قرارات له قوة القانون ، كما لو أقرته الأمة بأسرها سواء اقترنت بموافقة الملك أم مجلس اللوردات أم لم تقترن .
4-  إن مجلس اللوردات خطر على الأمة ومن الواجب إلغائه .
5-  إن الحكم الفردي المطلق من قبل الملك أو غيره يرهق كاهل الأمة .
استمرت الأحول السياسية بين مد وجزر خلال الفترة التي تبعت الحرب الأهلية ، وقد حاول الملوك استعادة سلطتهم ، في حين عمل الارستقراطيون في الحفاظ على مصالحهم ، في الوقت الذي كانت الطبقة العامة تناضل من اجل الإفلات من نفوذ الملك ومجلس اللوردات معاً وبشكل تام ، وإزاء تلك التطورات ، حصلت الطبقة العامة على بعض الامتيازات بموجب مرسوم الحقوق (Rights of Bill) الذي صدر في سنة 1689 على اثر الثورة التي قامت في بريطانيا وعرفت بالثورة الجليلة (1688-1689) ، وتم بموجبه القضاء على نفوذ الملك المطلق ، فضلاً عن حماية الأفراد وإلغاء الرقابة وفصل السلطة التنفيذية عن السلطة القضائية ، وقد قضى المرسوم على تدخل الملك في الأمور القضائية ، كما أصبحت هناك فسحة من الحرية للتعبير والتدوين والنشر للجميع شريطة عدم الإضرار بمصالح وسمعة الآخرين دون وجه حق ، إلى جانب عدم جواز تعطيل الصحف ومصادرة المطبوعات دون موافقة قضائية ، فضلاً عن حرمان الملك من التصرف بأموال الدولة وتعليق القوانين وإنشاء المحاكم دون موافقة البرلمان .
لقد لعبت الثورة الصناعية دوراً كبيراً في تطور نظام الحكم في بريطانيا ، فضلاً عن دور بعض المفكرين من أمثال توماس بيين (Thomas Peine) (1737-1805) الذي ألف عدة كتب في مجال مكانة الإنسان والعلم ودورهما في بناء المجتمع ومنها (الفهم) و (عصر العقل) و (حقوق الإنسان) وعد كتابه الأخير لدى بعض الناس والمفكرين إنجيل الحرية ، وقد هاجم فيه الأنظمة الوراثية لأنها تفرض شخصاً على الأمة دون الأخذ برأي الشعب ، وكان يرى ان الحكومة الشرعية هي التي تستمد سلطتها من الشعب وتمثل رغباته ، ولا يمكن اعتبار النظام صالحاً في حين هناك فوارق اجتماعية بين أبناء الدولة الواحدة لأن ذلك يعود إلى قصور الحكومة في تأدية واجباتها تجاه أبنائها ، ونتيجة للتطورات الاجتماعية والاقتصادية التي طرأت على المجتمع الانكليزي ، نمت الطبقة الوسطى ، والتي تركت أثراً واضحاً في تغيير الواقع الاجتماعي والاقتصادي في المدن والأرياف ، وحدث تغيير في حجم المدن واضمحلال بعضها وظهور أخرى وتراجع دور الريف ، مما أدى إلى تغيير حجم التمثيل البرلماني لمجلس العموم ، وساهمت تلك المتغيرات في إصدار لائحة الإصلاح (Bill Reform) لسنة 1832، وقد عالجت اللائحة مشكلة الانتخابات التي كانت تجرى في إطار ضيق ، وضمنت للطبقة الوسطى بعض الحقوق إذ توسع حجم الانتخابات ، لكنها في الوقت نفسه أهملت حقوق الطبقة العاملة ، وكانت الطبقة العاملة قد توسعت كثيراً نتيجة لتوسع دولاب الصناعة في بريطانيا التي سبقت غيرها من الأمم الأوربية في هذا المجال ، وكان العمال يشعرون بالغبن وفقدان حقوقهم الطبيعية ، ولم يكن أمامهم سوى الانحياز إلى احد الحزبين المتنفذين في البلاد وهما حزب المحافظين (Dories) الذي كان يمثل مصالح الطبقة الارستقراطية ، وحزب الأحرار (Whigs) الذي يمثل مصالح الطبقة الوسطى واغلب أعضائه من أرباب المصانع والتجار وأصحاب رؤوس الأموال المستثمرة داخل البلاد وفي المستعمرات البريطانية وأصحاب السفن ، وقد وجدت الطبقة العاملة نفسها اقرب إلى حزب الأحرار منه إلى المحافظين ، فانحازت إليه وأخذت تدعمه ، وشكلت له قوة إضافية لمنافسة حزب المحافظين.
       لقد انقسم المجتمع الانكليزي على نفسه بين مؤيد ومعارض ومتردد حول لائحة سنة 1832 ، وقد عارض الراديكاليون (Radical) ، الذين يمثلون الطبقة الكادحة اللائحة على اعتبارها لا تحقق مبتغاهم وأهدافهم ، فعمدوا إلى تأسيس الجمعيات والنقابات ، وقادوا حركات عديدة  للوصول إلى حقوقهم ، وكانت أهمها الحركة الجارتية (Chairitism) ، أي التعاهدية ، واعتبرت السلطة متعهدة في تنفيذ رغبات الشعب ومصالحه ، وقد قدمت الحركة لائحة لإصلاح الأحوال السياسية والاجتماعية في البلاد إلى الملكة فكتوريا ، جاء فيها :
1-  شمول جميع الذكور الراشدين في عملية الانتخاب.
2- ان يكون التصويت بشكل سري لضمان عدم تعرض المصوتين للضغط أو الخوف ولضمان إعطاء صوته بحرية وعدم تعرضه للأذى من قبل السلطة أو المتنفذين .
3-  ان تكون الدورة البرلمانية لسنة واحدة .
4-  منح النواب الرواتب والمخصصات بهدف انصرافهم إلى خدمة البلاد بإخلاص .
5-  إلغاء الشرط القاضي بامتلاك الناخب لملك خاص .
6-  تقسيم المملكة إلى مناطق انتخابية وتمثيلها حسب السكان وبشكل عادل .
لم تلق اللائحة قبولا ، ليس من قبل حزب المحافظين فحسب ، بل حتى من قبل حزب الأحرار ، فماتت الحركة في مهدها .
لم ينته دور الراديكاليين بنهاية الحركة الجارتية ، بل ظهرت عدة حركات أخرى بين الحين والآخر ، أعطت دفعة قوية للديمقراطية بشكل خاص وحقوق الإنسان بشكل عام في بريطانيا ، وكانت تلك الحركات تبني أهدافها على أفكار عدد من المفكرين الذين ظهروا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر والقرن التاسـع عشـر وفي مقدمتهم جـيرمي بينثام (Jeremy Bentham) (1728-1832) الذي كان يرى من الضروري إلغاء النظام الملكي وإزالة مجلس اللوردات عن المسرح السياسي البريطاني والاعتراف بسلطة مجلس العموم الذي يجب أن تكون سلطته تشريعية وتنفيذية ، فضلاً عن رقابته على الإدارة أيضاً ، ويعد بينثام مؤسس مذهب المنفعة في الفلسفة وعلم الأخلاق ، وقد عد بينثام حرية التعاقد ومبدأ الاقتراع العام حجر الأساس في الحكم العادل وشرعية الحكومة، لأن تلك الحرية تؤدي إلى تحقيق السعادة لأكبر عدد من الناس ، وكذلك جون ستيوارت ميل (Jhon Stewart Mill) (1806-1873) الذي أكد على حرية إبداء الرأي ، وان التمثيل النسبي يؤدي إلى تحقيق الغاية الأخلاقية المثلى والى النظام السياسي الصالح ، ويعد ميل ، العمل الغاية الأساسية التي تحقق الرفاهية والعدالة في المجتمع ، ويبدو أن ميل كان يميل إلى النظام الاشتراكي ، إذ كان يرى في وجوب عدم انقسام المجتمع إلى قسمين ، هما الكسالى الخاملون والعاملون المنتجون ، أي انه كان يدعو إلى تطبيق المبدأ (من لا يعمل لا يأكل) ، وضرورة توزيع نتاج العمل بصورة متكافئة عادلة ، وليس وفقاً لعوامل الوراثة والتمييز الطبقي ، وان ذلك يتحقق من خلال ما يأتي :
1-  منح الأفراد حرية اكبر للعمل .
2-  جعل المواد الأولية المستخرجة من الأرض ملكية عامة .
3-  حصول الجميع على الفوائد المتأتية من العمل المشترك .
      وقد صدرت نتيجة لتلك الأفكار والحركات عدة لوائح قانونية في السنوات 1867 و1884 و1885 ، وقد أكدت تلك اللوائح على توسيع المشاركة في التصويت ، وأصبح مجلس العموم بموجبها أكثر فاعلية في الساحة السياسية البريطانية وعلى أساسها بدأت المؤسسات الحكومية تتبلور على أساس ديمقراطي مع بداية قرن العشرين .