الدكتور نبيل المظفري facebook

لصق الكود

الثلاثاء، 10 أبريل 2012

جذور ودوافع الاعلان الاميركي لحقوق الانسان


الإعلان الأميركي لحقوق الإنسان
        كانت أميركا عبارة عن مستعمرات لعدد من الدول الأوربية وفي مقدمتها بريطانيا ، وقد كان سكان المستعمرات الأميركية خليط من الفئات التي انتقلت إليها من مناطق مختلفة ولأسباب متنوعة ، وغالباً ما توصف الولايات المتحدة بـ "أمة المهاجرين" ، وتعد من أكثر المجتمعات اختلاطا في العالم ، "ففيها يلتقي الكثير من التقاليد الحضارية ، والميول العرقية ، والأصول القومية ، والجماعات العنصرية"([i]) ، وقد كان المهاجرون يحملون معهم حضارة موطنهم الأصلي ، فضلاً عن الأفكار والروح الثورية التي كانت سائدة في أوربا ، وقد سبقت الثورة الأميركية ، محاولات عديدة لشعوب المستعمرات لنيل الحرية والتخلص من القيود الاستعمارية ، ظهرت أولها في مستعمرة فيرجينيا بتحريض من البرلماني الانكليزي سانديز (Sandys) المعارض لسياسة الملك ، الذي طالب بتمثيل المستعمرات وإشراك أبنائها في سن القوانين ، مطالباً في الوقت نفسه سكان المقاطعات الفرجينية بإرسال ممثليها إلى جيمس تاون ، وبالفعل تم تشكيل هيئة تمثيلية ، وعقـدت أول اجتماع لها في 30 تموز 1619 ، وسارت على أثرها المقاطعات الأخرى في تشريع القوانين وانتخاب هيئات تمثيلية لإدارة المستعمرات ، وجاءت ديباجة القوانين التي شرعتها على شكل مواثيق خاصة بحقوق الإنسان ، وكانت أهمها الوثيقة التي أصدرها سكان منطقة كونيتكتكت سنة 1639 .
        كان الاستقلال النسبي (الإدارة) والمساواة الاجتماعية أسوة بمواطني الجزر البريطانية ، التي كان يعيشها سكان المستعمرات البريطانية ، يشكل مر إزعاج للحكومات البريطانية ، إذ كانت تؤكد على خدمة المصالح البريطانية من قبل المستعمرات ، في توفير الأسواق لبضائعها وتقديم المواد الخام لمصانعها دون العمل على تقديم الخدمات بنفس المستوى التي تقدم لسكان بريطانيا نفسها ، بل إن بعض الحكومات زادت في استغلالها للمستعمرات ، بشكل خاص بعد تنامي الرأسمالية التجارية والصناعية بشكل كبير ، فقد عمدت انكلترا أولاً إلى العمل على السيطرة على الاقتصاد الرأسمالي ، وقد أسهمت في ذلك المعاهدات والقوانين التي أبرمتها مع الدول الرأسمالية الأخرى مثل قانون الملاحة لسنة 1651 ومعاهدة اوترخت 1713 وباريس 1763 ، إذ أعطت هيمنة انكليزية على الاقتصاد الرأسمالي ، وشكلت حافزاً كبيراً للنمو الصناعي، وقد أسهمت في زيادة الضغوط البريطانية على مستعمراتها في أميركا ، وتقوية سلطتها عليها ، إزاحة فرنسا واسبانيا عن طريقها في سنة 1763 ، من خلال تنفيذ القوانين البحرية التي وضعت تجارة أميركا تحت رحمة انكلترا ، فضلاً عن قيامها بفرض الضرائب لتعويض الخزينة البريطانية أموالها التي فقدتها في حروبها الكثيرة من خلال إصدار عدة قوانين مثل قانون السكر والعسل الأسود ومعامل التكرير وضريبة التمغة على الصحف والمستندات القانونية خلال السنوات 1737-1765 .
الثورة الأميركية
        زادت الإجراءات البريطانية من استياء الشعب الأميركي وبشكل خاص الإجراءات المتعلقة بالضريبة ، فقد اعترضت فيرجينيا عليها بشدة ، إذ قال باتريك هنري في مجلس المواطنين الخاص بالمستعمرة ، انه لا يحق لأحد فرض الضرائب على أهل فيرجينيا باستثناء مجلسها التشريعي ، وان كل محاولة من اجل ذلك تعد غير شرعية ، وسرعان ما انتشرت حركة المعارضة في المستعمرات الأخرى مثل ماساتشوستس وقد دفعت أراء ودعوات المحامي البوسطني جيمس اوتيز (Jemes Otis) الذي يعد الرائد الأول للثورة الأميركية ، حركة المعارضة إلى الأمام.
        لم يكن أوتيز وحده في الساحة من الداعين إلى الثورة على الانكليز ، بل إن أفكار الأوربيين الكبار من أمثال جون لوك وتوماس بيين قد تغلغلت إلى الأرض الأميركية ، اللذين كانا على رأس الداعين إلى إلغاء النظام الوراثي ، ورفض السلطة التي لا تستمد شرعيتها من الشعب ، وكان بيين الذي استقر في أميركا هرباً من السلطة في بريطانيا ، أكد بان لا جدوى من مطالبة الانكليز بتغيير سياستهم ، بل ان الثورة والتخلص من هيمنتهم وإقامة حكومة جمهورية مستقلة ديمقراطية تكفل حقوق الشعب ، هي السبيل الوحيد في الوصول إلى الرفاهية والتقدم والعدالة الاجتماعية والسياسية ، وقد تأثر عدد من الشخصيات المهمة في أميركا بأفكاره وفي مقدمتهم توماس جيفرسون ، وحث الأخير بدوره الشعب الأميركي على الثورة واعتماد حياة ديمقراطية شعبية حرة ، وأطلق عبارته الشهيرة "إن الله الذي وهبنا الحياة ، وهبنا الحرية معها ، في نفس اللحظة ولنفس السبب".
        انطلقت الانتفاضات في مناطق مختلفة من المستعمرات الأميركية ، نتيجة للأفكار الاستقلالية التي بدأت تسود فيها ، فضلاً عن السياسة التعسفية البريطانية ، مثل نيوانكلاند ونيويورك وبنسلفانيا وغيرها ، وأسست جماعات للوقوف بوجه بريطانيا منها جماعة (أبناء الحرية) ، وبدأ زعماء المعارضة ينشطون في المستعمرات المختلفة وعلى رأسهم صامويل آدمز (Samuel Adams) الذي خاطب المستعمرات بضرورة الوقوف ضد إجراءات الحكومة البريطانية ، وظهرت حركة لمقاطعة البضائع الانكليزية ، وأدت الاضطرابات المستمرة إلى الصدام مع الجنود الانكليز في بوسطن سنة 1770 وقتل بسببه عدة أشخاص وعرفت الحادثة بـ (مذبحة بوسطن) ، وكانت البداية للصدامات المسلحة ، وفي سنة 1773 قام مجموعة من الأميركيين بعمل عد الأنجح في مقاومة التجارة البريطانية في بوسطن وعرف بـ (حفلة الشاي) ، إذ ألقى الأميركيون الشاي الذي أرادت الحكومة البريطانية بيعه هناك في البحر ، ويبدو إن ذلك العمل كان البداية في إشعال الثورة الأميركية في سنة 1775، إذ استاء الملك البريطاني كثيراً ، وأصر على معاقبة بوسطن ، فاقر البرلمان الانكليزي بدعوة من الملك قانون الاحتجاج في 1774 ، وأغلق ميناء بوسطن بوجه التجارة ، واخضع اجتماعات مجلس المدينة للمراقبة ، ونقل عاصمة الولاية إلى مدينة أخرى وأنزلت قوات عسكرية كبيرة في المدينة.
        أثارت التطورات السريعة المستعمرات الأخرى ، وتجمعت حول مستعمرة ماساتشوستس ، فقد اقترح مجلس مواطني فيرجينيا عقد اجتماع في فيلادلفيا لمندوبي جميع المستعمرات ، واجتمع المؤتمر القاري الأول في سنة 1774 ، واصدر المجتمعون وثيقة اعترضوا من خلالها على سياسة الحكومة البريطانية في خنق الحريات وفرض الضرائب دون وجه حق وغيرها.
        كانت الشرارة التي أشعلت الثورة ، قيام القوات الانكليزية في 19 نيسان 1775 بالاستيلاء على مخازن الذخيرة والبحث عن زعيمي المعارضة جون هانكوك وآدمز ، وقد واجه الأميركيون تلك السياسة بالقوة ، وحدثت صدامات عنيفة في مستعمرة ماساتشوستس ، وسرعان ما اندلعت في عموم المستعمرات الأخرى ، وإزاء تلك التطورات اجتمع المؤتمر القاري الثاني في 10 أيار 1775 ، وقرر المجتمعون إعلان الحرب على انكلترا ، وتعيين جورج واشنطن قائداً عاما على جيش المستعمرات ، وقد حقق الجيش انتصارات كبيرة خلال السنتين 1775و1776 ، وكانت السبب في إعلان الاستقلال.
        شجعت مجريات الأحداث على الأرض الأميركية ، قادتها على العمل لإعداد وثيقة الاستقلال الأميركي ، وقد سبقت فيرجينيا المستعمرات الأخرى ، إذ أعلنت في أيار 1776 الاستقلال، وفي 7 حزيران من السنة نفسها تقدم لي (H.R.Lee) نيابة عن وفد فيرجينيا إلى المؤتمر الأميركي باقتراح تضمن جعل المستعمرات دولاً مستقلة وقطع علاقاتها مع التاج البريطاني ، ووافق المؤتمر على الاقتراح ، وتقرر تشكيل لجنة مؤلفة من جيفرسون وآدمز وبنيامين فرانكلين لإعداد بيان الاستقلال ، وخولت اللجنة جيفرسون لإعداد الوثيقة ، وتم بالفعل إعدادها ، وبعد إجراء بعض التعديلات عليها من قبل اللجنة ، أعلنت وثيقة الاستقلال في 4 تموز 1776 ، ونصت صراحة على استقلال الولايات الأميركية ، وقد نصت أيضاً على المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان ، وقد جاء فيها : إن الناس كلهم خلقوا متساوين ، وان الخالق قد منحهم حقوقاً ثابتة لا يمكن انتزاعها منهم ، وبين هذه الحقوق الحياة والحرية والسعي لبلوغ السعادة ، ولضمان هذه الحقوق أنشئت الحكومات بين الناس وهي تستمد سلطتها العادلة من المحكومين ، وانه عندما يصبح أي شكل من الحكومات أداة هدم لتلك الغايات فمن حق الشعب أن يغيرها أو يزيلها ، وان يقيم مكانها حكومة جديدة مؤسساً إياها على مبادئ ، ومنظماً سلطانها على وجه بحيث تبدو له انه أجدر بان تحقق له السلامة والسعادة.
        لم تنته المعارك الأميركية البريطانية بإعلان الاستقلال ، إذ استمرت تلك المعارك بين انتصار وهزيمة حتى سنة 1781 ، إذ استسلمت القوات البريطانية في ذلك التاريخ .
        لم يستقر الأميركيون على الوثيقة التي سنوها في سنة 1776 ، بل استمرت المفاوضات من اجل وضع دستور للبلاد ، وبعد انتخاب الكونغرس الأميركي في سنة 1779 ، تم إصدار لائحة حقوق الإنسان بعد إجراء التعديل على الدستور ، وسميت اللائحة (شرعة الحقوق الأميركية) ، وقد أجريت عدة تعديلات على الدستور لصيانة وحماية حقوق الإنسان ، وأهمها التعديل الذي اجري في سنة 1787 ، واهم ما جاء فيه في مجال حقوق الإنسـان ، انه لا يحق للكونغرس أن يسن قانونا لإقصاء أية ديانة أو منع إقامة شعائرها بحرية تامة أو الحد من حرية الرأي والتعبير والنشر ، وعقد الاجتماعات السلمية ولهم الحق في مطالبة الحكومة بالإنصاف وتحقيق العدالة ، وكما أكد الدستور في مادته الرابعة على ضرورة عدم انتهاك حرمة الشعب وان يكون مأمونا في بيوتهم وممتلكاتهم ، وان لا يتعرض للتعسف والاعتقال إلا في حالة وجود ضرورة شرعية لذلك وإجراء محاكمة سريعة وعادلة وغيرها.
الحرب الأهلية الأميركية
        إن إعلان الدستور الأميركي ، وإقرار شرعة الحقوق الأميركية ، لا يعني النهاية لمعاناة الإنسان في تلك البقعة الجغرافية ، لكن الشعب الأميركي كان على الدوام يرنو نحو الأحسن ، على الرغم من الصعوبات الكثيرة ، التي كانت تقف أمام تحقيق المساواة التامة بين مواطني أميركا ، فالرق كان يشكل عاملاً مهماً في الخلافات بين الولايات الشمالية والجنوبية ، وكان السبب الأول في اندلاع الحرب الأهلية الأميركية (1861-1865) ، والتي كانت نقطة تحول أخرى في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية، وعندما بدأت المعارك تميل لصالح الشماليين ، اخذوا في اتخاذ بعض القرارات التي اندلعت الحرب من بسببها . فقد اصدر الرئيس الأميركي ابرهام لينكولن (Lincoln) (1809-1865) بياناً في 22 أيلول 1862 ، أعلن فيه إعتاق العبيد ، وقد أوضح في البيان ، إن الغاية من الحرب ليست فقط إعادة الوحدة ، وإنما أيضاً إلغاء العبودية ، وبعد انتهاء الحرب ، وتحقيقا للسلام والعدالة والمساواة قال لينكولن "بدون أحقاد بحق أحد والخير من اجل الجميع والدفاع عن ما هو عادل . فلنناضل من اجل ما بدأنا ، رأب جرح الأمة والعناية بمن عانى أثناء المعارك من اليتامى والأطفال وفعل كل شيء من أجل سلام عادل ودائم داخل البلاد ومع كل الأمم" . وفي 18 كانون الأول 1865 ، وافق الكونغرس على التعديل الثالث عشر للدستور الأميركي الذي قضى بتحريم الرقيق في جميع أراضي الولايات المتحدة الأميركية.


[i])) للمزيد من التفاصيل حول مكونات الشعب الأميركي . ينظر : دوغلاس .ك. ستيفنسون ، الحياة والمؤسسات الأميركية ، ترجمة أمل سعيد ، الدار الأهلية للنشر والتوزيع (عمان ، 2001) ، ص 18-30 .