الدكتور نبيل المظفري facebook

لصق الكود

الخميس، 4 أغسطس 2011

التطور التاريخي للديمقراطية في بريطانيا


تطور الديمقراطية في بريطانيا
       كانت الملكية المطلقة جاثمة على صدور الانكليز ، في الوقت الذي خفت وطأة الإقطاعية ، ودخلت البلاد في صراع بين طبقاتها التي لا تختلف عن المناطق الأوربية الأخرى ، فكان الصراع بين الملك ورجال الدين من جهة وبينه وبين الشعب من جهة أخرى ، فضلاً عن تطلع النبلاء إلى السلطة والنفوذ من جانب آخر ، فاجتمعت دوافع عديدة من اجل المطالبة بالإصلاح ، فكانت الثورة السبيل لتحقيق أهداف الشعب ، ووضع القوانين التي تحفظ حقوقه ، وكان الشعب الانكليزي يدرك حاجته إلى القوانين التي تنضم حياته وتحدد واجباته وترسم سياسة الحكام وتوضح صلاحياتهم .
       كان نتاج الصراع الدائر بين الملك جون (John) (1199-1216) والطبقة الارستقراطية التي أيدتها طبقات الشعب الأخرى ، صدور البيان التاريخي سنة 1215 الذي عرف بالعهد الأعظم (Magne Carta) ، إذ اضطر الملك جون على توقيعه نتيجة للثورة التي قامت ضده وأيدتها طبقات الشعب كافة ، فكانت أقدم وثيقة دستورية بحق ، على الرغم من إنها لم تنظم لأصول الحكم ، لأنها عدت الشعب الأساس ، ووضعت الملك تحت طائلة القانون ، وان الشعب هو مصدر السلطة وليس الملك .
       احتوت الوثيقة (63) مادة ، جوهرها يؤكد على ضمان حقوق الإقطاع في وجه الملك وحرية الكنيسة والحفاظ عل ممتلكاتها وحماية المدن وأبنائها من تعسف السلطة ، وحقوق النساء والأرامل ، والسيطرة على الضرائب من قبل مجلس العموم ، ومنعت المادة (39) السلطة من إيقاف أي إنسان أو اعتقاله دون حكم قضائي ، وكذلك مصادرة أملاكه أو انتزاعها بالقوة على وفق تصريح الملك جون : "لا يجوز القبض على أي شخص حر ، أو اعتقاله ، أو نزع ممتلكاته أو حرمه أو إبعاده أو إنزال الضرر به بأية طريقة كانت ، كما إننا لن نأمر باتخاذ إجراءات ضده ، إلا بواسطة أحكام قانونية تصدر عمن هم من طبقة مماثلة لطبقته ، وبمقتضى قوانين البلاد" ، وأعطت الفرد الحرية التامة في التنقل والسفر بأمان باستثناء فترة الحروب كما ورد في المادة (42) . وتعد تلك الوثيقة بحق حجر الزاوية في بناء حياة دستورية في بريطانيا ، ثم انسحبت على البلدان الأخرى ، إذ تعد رمزاً للتفوق على الملك ، وكذلك نقطة تحول في مجال الحريات ، والأساس في تنظيم المجتمع والدولة على أساس قانوني .
       لقد ساهم عدد من المفكرين والحركات الداعية إلى السيادة الشعبية والحكم الديمقراطي ، وتحديد سلطات الملك ومقاومة الحكام الفاسدين من أمثال وايكلف (Wycliff) وجون فيرتسكير (Forterguue) وروجر بيكون (Pikon) (1214-1292) ، وقد أصبحت أفكارهم مدعاة لظهور الحركات البيوريتانية (Puritanism) الداعية إلى عدم حصر السلطات في أيدي مجموعة قليلة تتمتع بالمال والسلطة ، وجعل نظام الكنيسة أكثر ديمقراطية واقل مركزية ، ويجب ان يأخذ الفرد مكانته ، ولقد لقيت تلك الحركات مقاومة عنيفة من قبل الملوك الانكليز والكنيسة . 
       تمتد جذور البرلمان البريطاني إلى القرن الرابع عشر ، فقد تم تشكيل برلمان في سنة 1326 ، يتكون من مجلسين هما مجلس اللوردات ومجلس العموم ، وبدا أول الأمر بشكل بدائي ، ثم سار نحو التكامل ، نتيجة للصراع الدائر على الساحة البريطانية بين الملك وفئات الشعب المختلفة بما فيهم المفكرين ورجال الدين وحركات البيوريتان والطبقة الوسطى والارستقراطية، وقد دام ذلك الصراع لمدة أربع سنوات ، نجمت عنه حرب أهلية استمرت أربع سنوات متتالية ، وكان للكتب التي نشرها توماس هوبز (Hobbes) (1588-1679) وما حملت من أفكار إنسانية ولاسيما كتابه (في المدنية) أثر كبير على الشارع الانكليزي ، وكذلك فعل آخرون من أمثال بوكانان (Buckanan) و كودمان (Goodman) ، كما أن أفكار جون لوك (1642-1704) ساهم في التطور البرلماني والترويج لحكم الشعب من خلال كتابه (في الحكم المدني) ، إذ قال "إن القوة الغاشمة غير المشروعة وحدها يجوز دفعها بالقوة ... وان الشعب الذي اضطهد باطلاً سوف يهب لدى أول فرصة تسنح له لطرح العبء الذي يثقل كاهله" ، كما أكد على مسألة الحرية والمساواة الطبيعية وعدم إخضاع الإنسان لسلطة إنسان آخر بالإكراه أو تسخيره دون موافقته .
       كانت سياسة الملك تشارلس الأول ، سبباً في الصراع الديني والسياسي ، إذ أدى ذلك الصراع إلى سوق عدد كبير من رؤساء الكنيسة ورجال الدين إلى حتفهم بيد جلاوزة الملك ، وكان تشارلس قد وجد تأييدا من قبل الأسقف لاود (Laud) ، مما دعاه إلى تعيينه رئيساً لأساقفة كونتربري ، وكان قد ساعد في تأجيج الصراع أيضاً زواج الملك من أميرة كاثوليكية حرضته على إعادة الحكم الإلهي المطلق ، وتحجيم دور البرلمان ، وقد ترتب عن تلك الأوضاع المتأزمة في البلاد اندلاع الحرب الأهلية في سنة 1646 ، واستمرت حتى سنة 1649 ، كانت نتيجتها مقتل الأسقف لاود ، ومحاكمة الملك بتهمة الخيانة ، وقررت المحكمة إعدامه ، وتم تنفيذ الحكم في سنة 1649 ، واتخذ البرلمان قراره التاريخي الذي جاء فيه :
1-  إن الشعب مصدر السلطات .
2-  إن ممثلي الشعب المختارين من قبل الشعب لتمثيله هم الذين يملكون زمام السلطة في الدولة .
3- إن كل ما يتخذه مجلس العموم من قرارات له قوة القانون ، كما لو أقرته الأمة بأسرها سواء اقترنت بموافقة الملك أم مجلس اللوردات أم لم تقترن .
4-  إن مجلس اللوردات خطر على الأمة ومن الواجب إلغائه .
5-  إن الحكم الفردي المطلق من قبل الملك أو غيره يرهق كاهل الأمة .
استمرت الأحول السياسية بين مد وجزر خلال الفترة التي تبعت الحرب الأهلية ، وقد حاول الملوك استعادة سلطتهم ، في حين عمل الارستقراطيون في الحفاظ على مصالحهم ، في الوقت الذي كانت الطبقة العامة تناضل من اجل الإفلات من نفوذ الملك ومجلس اللوردات معاً وبشكل تام ، وإزاء تلك التطورات ، حصلت الطبقة العامة على بعض الامتيازات بموجب مرسوم الحقوق (Rights of Bill) الذي صدر في سنة 1689 على اثر الثورة التي قامت في بريطانيا وعرفت بالثورة الجليلة (1688-1689) ، وتم بموجبه القضاء على نفوذ الملك المطلق ، فضلاً عن حماية الأفراد وإلغاء الرقابة وفصل السلطة التنفيذية عن السلطة القضائية ، وقد قضى المرسوم على تدخل الملك في الأمور القضائية ، كما أصبحت هناك فسحة من الحرية للتعبير والتدوين والنشر للجميع شريطة عدم الإضرار بمصالح وسمعة الآخرين دون وجه حق ، إلى جانب عدم جواز تعطيل الصحف ومصادرة المطبوعات دون موافقة قضائية ، فضلاً عن حرمان الملك من التصرف بأموال الدولة وتعليق القوانين وإنشاء المحاكم دون موافقة البرلمان .
لقد لعبت الثورة الصناعية دوراً كبيراً في تطور نظام الحكم في بريطانيا ، فضلاً عن دور بعض المفكرين من أمثال توماس بيين (Thomas Peine) (1737-1805) الذي ألف عدة كتب في مجال مكانة الإنسان والعلم ودورهما في بناء المجتمع ومنها (الفهم) و (عصر العقل) و (حقوق الإنسان) وعد كتابه الأخير لدى بعض الناس والمفكرين إنجيل الحرية ، وقد هاجم فيه الأنظمة الوراثية لأنها تفرض شخصاً على الأمة دون الأخذ برأي الشعب ، وكان يرى ان الحكومة الشرعية هي التي تستمد سلطتها من الشعب وتمثل رغباته ، ولا يمكن اعتبار النظام صالحاً في حين هناك فوارق اجتماعية بين أبناء الدولة الواحدة لأن ذلك يعود إلى قصور الحكومة في تأدية واجباتها تجاه أبنائها ، ونتيجة للتطورات الاجتماعية والاقتصادية التي طرأت على المجتمع الانكليزي ، نمت الطبقة الوسطى ، والتي تركت أثراً واضحاً في تغيير الواقع الاجتماعي والاقتصادي في المدن والأرياف ، وحدث تغيير في حجم المدن واضمحلال بعضها وظهور أخرى وتراجع دور الريف ، مما أدى إلى تغيير حجم التمثيل البرلماني لمجلس العموم ، وساهمت تلك المتغيرات في إصدار لائحة الإصلاح (Bill Reform) لسنة 1832، وقد عالجت اللائحة مشكلة الانتخابات التي كانت تجرى في إطار ضيق ، وضمنت للطبقة الوسطى بعض الحقوق إذ توسع حجم الانتخابات ، لكنها في الوقت نفسه أهملت حقوق الطبقة العاملة ، وكانت الطبقة العاملة قد توسعت كثيراً نتيجة لتوسع دولاب الصناعة في بريطانيا التي سبقت غيرها من الأمم الأوربية في هذا المجال ، وكان العمال يشعرون بالغبن وفقدان حقوقهم الطبيعية ، ولم يكن أمامهم سوى الانحياز إلى احد الحزبين المتنفذين في البلاد وهما حزب المحافظين (Dories) الذي كان يمثل مصالح الطبقة الارستقراطية ، وحزب الأحرار (Whigs) الذي يمثل مصالح الطبقة الوسطى واغلب أعضائه من أرباب المصانع والتجار وأصحاب رؤوس الأموال المستثمرة داخل البلاد وفي المستعمرات البريطانية وأصحاب السفن ، وقد وجدت الطبقة العاملة نفسها اقرب إلى حزب الأحرار منه إلى المحافظين ، فانحازت إليه وأخذت تدعمه ، وشكلت له قوة إضافية لمنافسة حزب المحافظين.
       لقد انقسم المجتمع الانكليزي على نفسه بين مؤيد ومعارض ومتردد حول لائحة سنة 1832 ، وقد عارض الراديكاليون (Radical) ، الذين يمثلون الطبقة الكادحة اللائحة على اعتبارها لا تحقق مبتغاهم وأهدافهم ، فعمدوا إلى تأسيس الجمعيات والنقابات ، وقادوا حركات عديدة  للوصول إلى حقوقهم ، وكانت أهمها الحركة الجارتية (Chairitism) ، أي التعاهدية ، واعتبرت السلطة متعهدة في تنفيذ رغبات الشعب ومصالحه ، وقد قدمت الحركة لائحة لإصلاح الأحوال السياسية والاجتماعية في البلاد إلى الملكة فكتوريا ، جاء فيها :
1-  شمول جميع الذكور الراشدين في عملية الانتخاب.
2- ان يكون التصويت بشكل سري لضمان عدم تعرض المصوتين للضغط أو الخوف ولضمان إعطاء صوته بحرية وعدم تعرضه للأذى من قبل السلطة أو المتنفذين .
3-  ان تكون الدورة البرلمانية لسنة واحدة .
4-  منح النواب الرواتب والمخصصات بهدف انصرافهم إلى خدمة البلاد بإخلاص .
5-  إلغاء الشرط القاضي بامتلاك الناخب لملك خاص .
6-  تقسيم المملكة إلى مناطق انتخابية وتمثيلها حسب السكان وبشكل عادل .
لم تلق اللائحة قبولا ، ليس من قبل حزب المحافظين فحسب ، بل حتى من قبل حزب الأحرار ، فماتت الحركة في مهدها .
لم ينته دور الراديكاليين بنهاية الحركة الجارتية ، بل ظهرت عدة حركات أخرى بين الحين والآخر ، أعطت دفعة قوية للديمقراطية بشكل خاص وحقوق الإنسان بشكل عام في بريطانيا ، وكانت تلك الحركات تبني أهدافها على أفكار عدد من المفكرين الذين ظهروا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر والقرن التاسـع عشـر وفي مقدمتهم جـيرمي بينثام (Jeremy Bentham) (1728-1832) الذي كان يرى من الضروري إلغاء النظام الملكي وإزالة مجلس اللوردات عن المسرح السياسي البريطاني والاعتراف بسلطة مجلس العموم الذي يجب أن تكون سلطته تشريعية وتنفيذية ، فضلاً عن رقابته على الإدارة أيضاً ، ويعد بينثام مؤسس مذهب المنفعة في الفلسفة وعلم الأخلاق ، وقد عد بينثام حرية التعاقد ومبدأ الاقتراع العام حجر الأساس في الحكم العادل وشرعية الحكومة، لأن تلك الحرية تؤدي إلى تحقيق السعادة لأكبر عدد من الناس ، وكذلك جون ستيوارت ميل (Jhon Stewart Mill) (1806-1873) الذي أكد على حرية إبداء الرأي ، وان التمثيل النسبي يؤدي إلى تحقيق الغاية الأخلاقية المثلى والى النظام السياسي الصالح ، ويعد ميل ، العمل الغاية الأساسية التي تحقق الرفاهية والعدالة في المجتمع ، ويبدو أن ميل كان يميل إلى النظام الاشتراكي ، إذ كان يرى في وجوب عدم انقسام المجتمع إلى قسمين ، هما الكسالى الخاملون والعاملون المنتجون ، أي انه كان يدعو إلى تطبيق المبدأ (من لا يعمل لا يأكل) ، وضرورة توزيع نتاج العمل بصورة متكافئة عادلة ، وليس وفقاً لعوامل الوراثة والتمييز الطبقي ، وان ذلك يتحقق من خلال ما يأتي :
1-  منح الأفراد حرية اكبر للعمل .
2-  جعل المواد الأولية المستخرجة من الأرض ملكية عامة .
3-  حصول الجميع على الفوائد المتأتية من العمل المشترك .
      وقد صدرت نتيجة لتلك الأفكار والحركات عدة لوائح قانونية في السنوات 1867 و1884 و1885 ، وقد أكدت تلك اللوائح على توسيع المشاركة في التصويت ، وأصبح مجلس العموم بموجبها أكثر فاعلية في الساحة السياسية البريطانية وعلى أساسها بدأت المؤسسات الحكومية تتبلور على أساس ديمقراطي مع بداية قرن العشرين .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق